روى مسلمٌ في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لله أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن من رجل حمل زاده ومزاده على بعيرٍ ثم سار حتى كان بفلاة من الأرض، فأدركته القائلة / وقت القيلولة فنزل فقالَ تحت شجرةٍ فغلبته عينه وانسلّ بعيره فاستيقظ فسعى شرفًا فلم يرَ شيئاً ثم سعى شرفًا ثانيًا فلم يرَ شيئاً ثم سعى شرفًا ثالثاً فلم يرَ شيئاً فلما أدركه العطش , قال : أرجع إلى مكاني الذي كنتُ فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده طعامه وشرابه ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك , أخطأ من شدة الفرح فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده
الدَّرْسُ الأوّل
ولو أنَّ كل المخلوقات عصوه ما نقص ذلك من ملكه شيئًا ولو أنّ كل المخلوقات أطاعوه ما زاد ذلك في ملكه شيئًا فلا المعصية تضره سبحانه ولا الطاعة تنفعه جلّ في علاه ولكنه رحيم حدّ الذهول، كريم حدّ الدهشة يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ولا يردُّ من أتى ولو جاء بسيئات كالجبال
من قرع بابه فتح له ومن جاءه يمشي أتاه هرولة عفّو يحبُ العفو، وكريم يحب الصفح مهما عظمت ذنوبك فعفوه أعظم مهما كثرت خطاياك فصفحه أكثر ولا يمل من الصفح حتى يمل العبد من التوبة فإذا غلبتك ذنوبك وزين لك الشيطان أعمالك تذكَّرْ كيف يفرح إذا أتيته وناديت ربِّ أذنبتُ ولا منجى منكَ إلا إليكَ عبادك كثير وليس لي ربّ سواك
يكفيه هذا ليرضى يمحو ذنوب السنين الطوال بلحظة توبة فلا تدع الشيطان يقنطك من رحمته وإياك أن تخجل من قرع بابه مهما كانت حالك فإنه الله وليس ملك من ملوك الأرض الذين إن أحسنت إليهم دهرًا ثم أسأت مرة عاقبوك إنه العَفُوُّ،
فلا تقس أخلاق ملوك الأرض على ملك السماء يُحكى أن ملكًا من ملوك الأرض كان عنده كلاب مفترسة يُلقي إليها كلّ من قصّرَ في خدمته وكان له وزير خدمه سنواتٍ طويلة ثم إن هذا الوزير قصّر مرةَ في خدمة الملك فقرر الملك أن يلقيه للكلاب لتأكله فطلب الوزير من الملك أن يمهله أسبوعًا قبل العقاب فوافق فذهب الوزير إلى حارس الكلاب
وقال له : عد إلى بيتك فإني سأرعى الكلاب أسبوعًا عنك وبدأ الوزير يُطعم الكلاب ويكرمها حتى أحبته
وبعد أسبوع ألقى الملك الوزير للكلاب فلم تأكله فسأله بدهشة : أسحرتَ الكلاب ؟ فقال له الوزير : كلا، ولكني خدمتها أسبوعًا فقدّرت صنيعي معها
أما أنت فخدمتك دهرًا فلم تحفظ هذا لي هذه أخلاق ملوك الأرض أما ملك السماء فله شأن آخر يُعصى دهرًا فيغفر بلحظة يُجترأ عليه عمرًا فيرضى بثانية فلا تزهد فيه وهو لا يزهد فيك
الدَّرْسُ الثّاني
الدنيا دار أسباب، والأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله على العكس تمامًا فقد أُمرنا أن نأخذ بالأسباب لأنها واقعة في قدر الله ولو استغنى أحد عن الأسباب لقوة إيمانه , لكان استغنى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد أكثر إيمانًا منه فيوم الهجرة استأجر له دليلًا يرشده إلى طريق المدينة ولم يقل أنا نبيّ سأصل على أية حال
وكان في المعارك يلبس درعًا ولم يقل أنا نبيّ وسيحميني الله على أية حال وكان إذا أراد أن يغزو ورّى أي سلك طريقاً غير الذي يريد ليفاجئ العدو ولم يقل أنا نبي وسينصرني الله على أية حال وهذا عمر بن الخطاب يرى أعرابيًا له بعير أجرب يرفع يديه إلى السماء ويدعو أن يشفي الله بعيره فقال له : أيّد دعاءك بشيءٍ من القطران !
أي خذ بالعلاج والأسباب ولا تترك الدعاء وعندما أراد دخول الشّام، وبلغه أنّ الطاعون قد دبَّ فيها، قرر أن يرجع فقال له أبو عبيدة : أفرار من قدر الله يا أمير المؤمنين ؟
فقال له عمر : أفرّ من قدر الله إلى قدر الله لو أن رجلاً هبط وادياً له عدوتان، واحدة جدبة والأخرى خصبة أليسَ إن رعى في الجدبةِ رعى بقدر الله، وإن رعى في الخصبة رعى بقدر الله ثم لما جاءه من يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” إذا سمعتم بالطاعون بأرضٍ فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه “
فسجد عمر شكرًا وقال : الحمد لله الذي جعل الحق على قلب عمر وصاحبنا في الحديث أساء التوكل على الله وأهمل ما كان عليه أن ينام وراحلته طليقة ولو أنه ربطها ونام لأفاق ووجدها فخذْ بالأسبابِ ما استطعتَ إلى ذلك سبيلًا ولكن لا تجعلْ يقينك على الأسباب السيوف لا تحقق النصر ولكن ترك السِّلاح في المعارك بلاهة والعمل لا يجلب الرزق ولكن تركه حمق والدواء لا يشفي ولكنه سبب أُمرنا به الناصر هو الله والرازق هو الله والشافي هو الله ولكنها دار أسباب فلا تزهد فيها
الدَّرْسُ الثَّالث
الخطأ مردود فلا تقف للناس على الحرف واللفظة الفرح الغامر يأخذ بالعقول، والحزن الشديد يسلب الألباب وهذا صاحبنا قال :
اللهم أنت عبدي وأنا ربك ! وهذه لفظة لو عناها فعلاً لكانت كفرًا بواحًا ولكن انظر للرحمة المهداة يُبرر حالته النفسية ويقول : أخطأ من شدة الفرح ! فلا تُكفّر بلفظةٍ دون أن تراجع صاحبها فيها
فإنه قد يكون جاهلًا، وقد يكون حزينًا وقد يكون فرحًا وأنا لا أبرر للكلام السَّيء حال الحزن أو الفرح ولكنني أقول أننا بشر وقد لا نملك زمام قلوبنا وألسنتنا أحيانًا
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على العقيدة قد راعى حالة الرجل النفسية فما بالنا نحن الذين دونه وفي هذا درس آخر لنا وهو لا تعطِ وعدًا في فرح شديد في الفرح قد نعد بما لا نستطيع وفي الحزن قد نهدد بما لا نقدر دع غمرة الفرح تمضي وسورة الغضب تزول ثم انظر في أمرك بعدها ولا تكن ممن تحركهم ردود الأفعال !
الدَّرْسُ الرَّابع
نقل الكفر ليس كفرًا ! علينا أن نُميِّز إن كان القائل يتبنى المقولة أم ينقلها فقط لا تخلط بين المُعتقِد بالكلام وبين ناقله فها هو النبي ينقل إلينا لفظة لا يعتقدُ بها وحاشاه أن يعتقد وها هو القرآن ينقل إلينا كفر الأمم السابقة : ألم يقل ربنا : ” لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ” ! وألم يقل أيضًا: ” وقالت اليهود يد الله مغلولة “
وعلينا أن نحسن الظنّ بالمسلمين، ونحمل كلامهم على الخير إن كان يحتمل خيرًا فالكلام حمّال أوجه وله أكثر من معنى وقد قال أحد الصالحين : لو رأيت أحد إخواني على جبل يقول: أنا ربكم الأعلى لقلت يتلو الآية! ولو رأيت لحيته تقطر خمرًا لقلتُ : لعلها سُكبت عليه
المصدر : ادهم شرقاوي كتاب مع النبي